الملك غازي .. الروح العربية الوطنية الأصيلة
- تقرير كريم المهندس
- Mar 8, 2016
- 7 min read

في بيئة عريقة الأدب. أصيلة في الكرامات، وفي مكة ولد غازي بن فيصل بن الشريف حسين في 21 آذار 1912؛ وشاءت الصدفة أن يولد أثناء قيادة والده الحملة على "محمد الإدريسي" الذي تمرد على الدولة العثمانية وعليه تمت تسميته باسم "غازي"... لقد كان لظروف والده الأثر الكبير في نشأته في كنف جده الشريف حسين... حيث أن والده كان من الرجال الذين اعتمد عليهم في قيادة الحملات داخل الحجاز وفي الشام بالإضافة إلى كثرة سفراته إلى الأستانة... ومن هنا فأن لقاء الملك فيصل مع ولده غازي كان قليلا لكثرة مشاغله وسفراته... وشاءت الصدفة أيضا أن يولد الملك غازي في فترة من أحرج الفترات التي صادفت الشريف حسين وعائلته.. وبذلك كانَ الاهتمام بغازي قليلا جدا نظير ابناء الاسرة الهاشمية الذين نشأوا وترعرعوا في كنف عائلة تحب العلم وتحترم العلماء وتعلم أبناءها اضافة الى حب الوطن والدين لغات حية كاللغة التركية التي كان يجيدها اغلبية افراد العائلة.. وبالنظر لاستمرار القلاقل والاضطرابات في الحجاز والمنطقة بصورة عامة، ونظرا لكونه الابن الاصغر للملك فيصل الاول وهو الذكر الوحيد فيهم "الطفل الرابع بعد ثلاث اناث" فانه نشأ مع امه، يغرف المعرفة البسيطة بالاضافة الى الحنان الوافر وادى ذلك الى نشأته مدللا خجولا مما اثر تأثيرا كبيراً على مجمل حياته العامة ومستقبلاً.. غادر الملك غازي الحجاز الى الاردن مع كافة افراد العائلة عام 1924 وبنفس الوقت بويع ولياً للعهد في العراق... فوصل على هذا الاساس الى بغداد مع كافة افراد العائلة في 5 تشرين الاول 1924... كان الملك غازي في طفولته خاملا... ولم يظهر عليه اي شيء يدلل على نبوغه الأمر الذي اثار كوامن نفسية والده الملك فيصل الاول وارتاب من الامر مما جعله يعرض الامر على الاستاذ ساطع الحصري لتبيان رأيه، حيث اكد الاخير على ان الملك غازي رجل طبيعي واعتيادي وان تربيته الاولى هي سبب انطوائه مما حدا بوالده الملك ادخاله مسلك الكشافة حتى يختلط مع عامة الشعب من اقِرانه وازالة ما تعلق به منذ طفولته وبالمقابل تم اعداده وتربيته على اساس انه ولي العهد واختيار مدرسين اكفاء اختصاصيين لتدريسه مختلف المواد العلمية والادبية واستمرت مربيته (مسز فيرلي) تدريبه على المحادثة باللغة الانكليزية. وفي عام 1926 ارسل الملك غازي الى لندن لاستكمال دراسته في مدرسة (هارو) وهناك عاش في بيت الاسقف (جونسون) بمقاطعة (كنت)... وقد تأقلم غازي بسرعة مع عائلة الاسقف الذي كان يدرسه القراءة والكتابة والنحو والاملاء والرياضيات بالاضافة الى نشاطاته الاجتماعية والرياضية كلعبة التنس وركوب الخيول... وبنفس الوقت كانت التقارير عن سير تعليمه ترفع الى وزير المستعمرات الذي كان يرسلها بدوره الى المندوب السامي البريطاني في العراق لإيصالها الى والده الملك فيصل... وجاء في احداها ان غازي "رقيق مطيع وحسن الطباع وسريع الفطنة غير انه ليس له الاهتمام الجدي بالتعليم ومع ذلك فهو سريع الفهم غير انه سريع النسيان ايضا... وعلى الرغم من ذلك فانه قطع شوطاً بعيداً... ان لغته جيدة واذا اعتنى يتكلم جيداً" وبعد عام من دراسته دب الملل في كيانه بعد ان سئم الحياة اللندنية بعيدا عن أهله. "والحق يقال بان عدم رغبة غازي بالدراسة في انكلترا او المكوث فيها لم يكن مرده الى نقص في الذكاء او مجرد الحنين الى اهله... وانما هناك عامل اخر الا وهو نقمته الشديدة على الانكليز، حيث لم يستطع ان ينسى خذلانهم لجده الشريف الحسين بن علي وتخليهم عن وعودهم للعرب، كان يحمل هذا الشعور منذ مغادرته الحجاز في عام 1924، وخلال وجوده في انكلترا كانت عفويته تصدح احيانا عما يحمله في قلبه تجاه الانكليز، يقول الدكتور صائب شوكت الذي التقى به في لندن عام 1927 كان الأمير غازي يقول لي –امنيتي ان أُكَوّن جيشاً احارب به الانكليز....". وفي عام 1928 عاد الى بغداد ودخل المدرسة العسكرية الملكية حيث انصهر مع الطلاب وخصوصا اثناء التدريب والعمل وتآلف مع امزجة اقِرانه وبالتالي استطاع ان يخرج جزئيا من عزلته النفسية التي نشأ عليها... وابدى ايضا اهتماماً ملحوظاً بالميكانيك والالعاب الرياضية والفروسية... الا ان ضعفه في الدروس العلمية والادبية كان واضحا... حتى تخرج ضابطاً برتبة ملازم ثاني عام 1932 وهو يتحلى بلياقة جسدية رياضية ويعشق العلوم العسكرية وكان الاول في الفروسية. ان السمة الاساسية للملك غازي كانت التواضع في تعامله مع اصدقائه من طلاب مدرسته العسكرية او من الضباط الذين كانوا يتوافدون عليه في مناسبة او اخرى... لقد كان صديقا للجميع، يحس بمشاعر الاخرين ويحاول قدر الامكان اسعاد المقابل... وفي 5 حزيران 1933 سافر الملك فيصل الاول الى لندن واوكل مهمة الدولة الرسمية الى ولي عهده "غازي" وكانت هذه هي تجربته الاولى الفعلية في معالجة الامور الرسمية واختبار مدى كفاءته في التعامل مع الناس من خلال ذلك... وفي هذه الفترة بالذات حدثت أحداث الآثوريين وما قام به وزير الداخلية (حكمت سليمان) من اعتقال (مارشمعون) مما ادى الى وقوف بريطانيا ضد وزير الداخلية الامر الذي اعتبره الملك غازي اول تحد له من قبل البريطانيين فاستمر في موقفه بالرغم من تهديد القائم باعمال السفارة البريطانية بان حجز (مارشمعون) سيؤدي (حتما) الى قيام (ثورة) ضد الحكومة... لقد تحدى الملك غازي الانكليز في هذا الموقف وان هذا التحدي اعطى له التأييد من عامة الشعب على انه (المنقذ) الذي يستطيع انقاذ البلاد من البريطانيين ومعاهداتهم. وادى اصرار الملك بتأييد وزير الداخلية في اجراءاته الى التصادم غير المباشر مع السفارة البريطانية في بغداد واصر على موقفه من عدة لقاءات مباشرة مع القائم باعمال السفارة واعلن انه يؤيد الاجراءات التي اتخذت بحق (مارشمعون) ورفضه كافة اقتراحاتهم، وان هذا الموقف هو انعكاس لكره الملك غازي للبريطانيين وخصوصا معرفته التامة بنواياهم وتاريخهم مع جده الشريف حسين، ولم تحل هذه الازمة الا بعد عودة الملك فيصل من لندن... وان هذا الموقف المباشر من الملك غازي ادى بالنتيجة الى حالتين: الحالة الاولى: كره الانكليز لموقف الملك غازي واعتباره من الاشخاص الذين لا بد من الالتفاف حوله للحد من اندفاعه ضدهم او ايجاد حل مناسب او التخلص منه اذا تطلب الامر. الحالة الثانية: التفاف الجماهير الشعبية حول الملك غازي... وكان ذلك واضحا من مظاهرات استقباله في الوية (محافظات) القطر حين كان نائبا للملك... وبعد وفاة الملك فيصل الاول تم تتويج الملك غازي وهو يحمل في احشائه موقف عامة الشعب من اصابع الاتهام الموجهة نحو بريطانيا حول سببب وفاة والده وصدر البلاغ التالي: "جرى تحليف سمو ولي العهد في الساعة العاشرة من هذا اليوم، وفقا للمادة الحادية والعشرين من القانون الاساسي، واصبح متوجا ملكا على العراق باسم الملك غازي الاول ابن الملك فيصل الاول...
تربيته العسكرية (1928-1932): استدعى (الملك فيصل) في تشرين الاول 1928 ولده من انكلترا، وقبل ان يصل هذا الى العراق، اوعز الوالد بقبوله في (المدرسة العسكرية الملكية) على اساس انه سيقضي سنة فيها قبل ذهابه الى تكملة دراسته العسكرية في (مدرسة ساند هورست) فسجل اسمه في (المدرسة العسكرية الملكية) اعتبارا من 29 تشرين الاول 1928. وصل غازي الى بغداد 1 تشرين الثاني 1928 كانت المدرسة العسكرية الملكية تقبل ثلاثة اقسام من الطلبة: 1- القسم المتعلم الذي اكمل الدراسة الثانوية. 2- القسم الوسط، وهم الذين اكملوا الدراسة الابتدائية ودرسوا في صف او صفين في الدراسة المتوسطة. 3- ابناء رؤساء العشائر. والقسم الاخير كان يكفي لقبولهم في المدرسة معرفتهم القراءة والكتابة. ولما لم يكن (غازي) قد حصل على شروط القسمين (الاول والثاني) فقد تم قبوله كأحد أبناء العشائر الذين كان ينظر اليهم بانهم اقل مستوى في التعليم، ولذلك تعطى لهم دروس خاصة قبل ان يتم اندماجهم مع الاخرين. باشر (غازي) في (المدرسة العسكرية الملكية) في 2 تشرين الثاني 1928 وكانت رغبة والده ان يتخرج ابنه فيها ضابطا خيالا، فطلب الى وزير الدفاع ان تبذل العناية لتدريبه على ركوب الخيل والتمرن على الفروسية. ويبدو ان (الملك فيصل) كان يراعي ان صغر جسم الأمير غازي كان يتلاءم مع تمارين الفروسية، كما اوصى وزير الدفاع ان يصدر اوامره الى مديرية المدرسة بوجوب اعتبار (غازي) كبقية التلاميذ ومعاملته بنفس الطريقة التي يعامل بها التلاميذ دون تمييز في الدروس والمأكل والمنام، لغرض ان يعتمد على نفسه، وخلال زيارات (الملك فيصل) للمدرسة العسكرية بعد ذلك، كان يؤكد على تلك المعاملة، وامر ان لا يلقب بالقاب الامارة، وانما ينادى عليه باسم "الشريف غازي بن فيصل"، فكان زائر المدرسة يجد قطعة تعلو سريره الخاص كتب عليها "الشريف غازي بن فيصل". وقد ركزت فيه تلك المعاملة سجية التواضع واتاحت له فرصة الاندماج مع التلاميذ، والتآلف مع امزجتهم، فاستطاع بما بدا عليه من تواضع واخلاق وكرم وطاعة وروح عسكرية متوقدة ان يكون موضع احترام اساتذته واحترام التلاميذ ورفيق مجلسهم في نادي المدرسة. ان مظاهر الالفة التي تعمقت بين غازي وطلاب المدرسة العسكرية، وان عكست في حينها انطباعا غير محبب في نفس والده، خاصة فيما يتعلق بكثرة صرفه على اصدقائه وكثرة تدخينهم، وتناوله المشروبات معهم خلال عطلات المدرسة، الا انها كانت تخفي في الحقيقة أثراً مهماً في تفكيره السياسي وسلوكه الاجتماعي، إذ كان لا بد لتلك المجالسات ان تشهد متنفسا لمناقشة الاوضاع السياسية والاجتماعية السائدة في العراق والبلاد العربية. صحيح ان الحديث في السياسة كان محظوراً على طلاب المدرسة العسكرية. ولكن لا ننسى انه منذ عام 1927 كان هناك تنظيم سياسي بين صفوف الضباط دعي بـ(الميثاق القومي العربي) بقيادة (صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب)، وقد ازداد عدد هذا التنظيم ما بين سنة 1927-1933 لان قيادة التنظيم اصبحت في مناصب تمكنها التأثير في ضباط، خاصة عندما اشغل الضباط الاربعة مناصب تعليمية في الجيش، وذلك اما في (المدرسة العسكرية الملكية) او في (مدرسة الاركان). لقد كان وجود الانكليز في العراق انذاك محور الاستقطاب السياسي، فلم يكن هناك تيار ثالث بين التيار الرافض لذلك الوجود، والتيار الذي يرى ضرورة استمراره طالما ان العراق بحاجة الى استشارة وتعاون الانكليز. واذا كان (الملك فيصل) ينتمي الى التيار الاخير وقد اتبع مرونة في مماشاته للانكليز، فان ولده (غازي) كان يحمل منذ البداية بغضا شديدا لهم ورغبة في عدم مجاراتهم، لقد كان يرى فيهم قوما مستعمرين لا ينظرون الا الى مصالحهم ويضحون بكل شيء في سبيل منفعتهم، انه لم ينس ما فعله الانكليز بجده (الحسين بن علي) وكيف نكثوا عهودهم معه، فلا غرابة عندما دخل (المدرسة العسكرية) واندمج بطلابها وجد شبيها لتلك المشاعر، فكان يفصح احيانا عما في داخله وخاصة لمن يأتيهم وتوثقت علاقته بهم، يقول (فؤاد عارف) الذي كان على صلة وثيقة بـ (غازي) في المدرسة العسكرية: كانت عيناه تغرورقان بالدموع، وهو يتذكر ما فعله الانكليز بجده الحسين. ولقد ركزت فترة وجوده في المدرسة العسكرية في نفسه تلك المشاعر، واضافت اليها ابعادا جديدة لرسم سبل الخلاص من الانكليز وتحقيق الاهداف القومية بتوحيد البلاد العربية، اذ كانت افكار بعض طلاب المدرسة العسكرية قد تشربت بافكار الضباط القوميين اذا ما تذكرنا ان (محمود سلمان) اصبح حينذاك مساعداً لآمر المدرسة العسكرية ومدرسا للفروسية، وقد اشرف على تدريب (الأمير غازي) الذي تعلق به تعلقا كبيرا وتشبع بافكاره، ولم يتوان بعض الضباط من استغلال المناسبات للاتصال به وشحذ همته مصورين له بأنه امل البلاد، وان الامة تعتمد عليه في تحقيق آمالها وتوحيد البلاد العربية.
Comments